الأحد، 20 ديسمبر 2009

الخروج عن المعطف

نيكولاي جوجول


عشر راويات و ستة رواة يسردون أربعاً و ثلاثين قصة أو حكاية رواها الآلاف قبلهم و ما من أحد منهم قد سمع بالمدعو (جوجول) ولا بمعطفه المحظوظ الذي قيّض له المكان و الزمان من الشهرة ما لم يقيّض لغيره.. أولئك هم من التقى بهم الأديب (أحمد يوسف عقيلة) و سجل خراريفهم التراثية في كتابه القيم والممتع: (خراريف ليبية).



لا يهمني في هذه الوقفة إلقاء الضوء على القيم الجمالية و التربوية والاجتماعية والتاريخية واللغوية لهذه الحكايات وهي جمة و تستحق التأمل ولسوف تكون لي وقفة معها في المستقبل إن شاء الله تعالى.. و لكن ما يهمني هنا هو خرافة أخرى خالية من القيمة الجمالية وإن لم تكن خالية من الأبعاد الاجتماعية والتاريخية وربما التربوية وهي خرافة معطف (جوجول) الذي كما يشاع قد خرج منه كل من حكى حكاية أو كتب قصة.. ثمة مغالطة جعلت بالإمكان لهذه الخرافة أن تعيش معنا كل هذا الزمن ليس باعتبارها خرافة بل باعتبارها حقيقة بنت حقيق وحقيقة أبا عن جد.

تتجلى هذه المغالطة في القول بأن (جوجول) قد أتى بفن جديد ليس الحكاية حينما كتب (المعطف).. و المعيار الذي اتخذ للقول بهذا بني على الزعم باختلاف تكنيك الكتابة و ليس موضوعها.

القارئ للمعطف بترجمتها العربية (ولا أظن أن المترجم قد تصرف في التكنيك) لا يجد ثمة فرقاً بينها و بين أي خرّافة (بفتح الراء وتشديدها) من تلك الخراريف التي حواها كتاب (خراريف ليبية) إلا أن ترجمة المعطف قد صيغت باللغة العربية بينما صيغت الخراريف بالعامية الليبية.. و هذا على مستوى التكنيك ليس فرقاً على الإطلاق.

لندع رواة (أحمد يوسف) جانباً و نعود إلى ما قبل(جوجول).

مما هو معروف لكل متتبع لتاريخ الأدب أن الحكاية أو القصة لون أدبي قديم بل إن ثمة من يعود بتاريخها إلى الحضارات القديمة مثل الحضارة الفرعونية والتي أخذ عنها اليونان هذا الفن و خاصة إيسوب الذي ولد قبل ميلاد (جوجول) بقرون عديدة.. هذا ما ذهب إليه العديد من الباحثين في هذا الخصوص منهم على سبيل المثال الدكتور الطاهر أحمد مكي في كتابه القصة القصيرة .. و لقائل أن يقول : إن ما كتبه (جوجول) يختلف عما كتبه إيسوب من حيث أن الأول اتخذ من البشر أبطالاً لقصصه بينما كان أبطال إيسوب من الحيوانات.. و هذا الاختلاف لم يكن (جوجول) بأول من أحدثه.. ثم أنه لا يدخل ضمن الاختلاف في التكنيك أو كما يسمى بطريقة المحاكاة بل يتعلق بموضوع المحاكاة.

و مما يربك الناقد والمتتبع لتاريخ القصة هذا التعدد في تصنيفاتها وأنماطها قديماً و حديثاً.. و لعله كان سبباً أساسياً في الاعتقاد بان ما أتى به (جوجول) كان شيئاً جديداً.. ففي اللغة الانجليزية مثلاً ووفق تصنيف قديم مقارنة بأنماط القصة الحالية نجد تسميات كثيرة لأنواع متمايزة من القصة أو الحكاية منها:

Novel , novella , fairy-tale , fable , fiction , legend , myth …..

في كتابه فن القصة القصيرة يزعم رشاد رشدي أحد أهم منظريها العرب بأن ميلادها كفن جاء على يد موباسان ولا يأتي على ذكر (جوجول) إطلاقا.. و يحدد لها شروطاً هي:

1 ــ أنها عبارة عن خبر.

2 ــ لابد أن يكون له أثر كلي.


3 ــ أن يكون له بداية ووسط ونهاية أي يصور ما يسمى بالحدث.

4 ــ أن يجيب على أربعة أسئلة: أين ومتى وكيف ولماذا وقع الحدث؟

5 ــ لا يمكن تلخيصه... (ألا يمكن تلخيص المعطف؟).

6 ــ أن يعطي معنى كلياً... (أظن أن هذا الشرط تكرار بصورة ما للشرط الثاني).

7 ـ أن يصور الفعل والفاعل.. وليس الفعل فحسب.

8 ــ أن يصور الشخصية وهي تعمل عملاً له معنى.

و السؤال: ألم تتوفر هذه الشروط في أي نص قصصي قبل جوجول وموباسان؟

ألم تتوفر في أية حكاية من حكايات كتاب (خراريف ليبية)؟ .. بصرف النظر عن أبطال قصص موباسان وأبطال الخراريف.. فهذا الاختلاف لم يذكر حتى في هذه الشروط الثمانية.

و بعد رشاد رشدي طرأت على القصة تطورات منها ما يمكن تسميته بتحطيم المكان والزمان و نشأ عن هذه التطورات أنماط من القَصّ اتخذت بسبب تمايزها صفة النوع فبدت كما لو كانت أنواعاً أو أجناساً أدبية مختلفة.. نجد باحثاً مثل الدكتور خيري دومة في كتابه تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة يعددها على النحو الآتي:

النوفيلا (القصة القصيرة الطويلة), حلقة القصص, القصة اللوحة, القصة القصيرة جداً, قصة تيار الوعي.. و يقول عن هذا النوع الأخير بأنه يسير من خلال نماذجه في اتجاهين: مع الواقعية استمراراً لتقاليد القصة الواقعية مع مزيد من الاهتمام بالبعد الداخلي للشخصية, من خلال تقنيات تيار الوعي.. واتجاه ضد الواقعية أو انقلاباً على تقاليد القصة الواقعية وانصياعاً لفوضى تيار الوعي وفيضانه و سريالته وعبثه .. و يذكر أسماء عدة ممثلة للاتجاهين.. من بين الممثلين للاتجاه الأول جمال الغيطاني ومن بين الممثلين للاتجاه الثاني ادوارد خياط.. و لم يهتم بما يسمى بالقصة القصيدة والتي ربما هي أقرب الأنواع أو الأنماط لقصة تيار الوعي ولكن ليست هي تماما.

يظل ثمة عامل مشترك بين كل الأنماط التي تستحق الانضواء تحت القصة وهو السرد أو الحكي.. فإن غاب هذا العامل فإن النص لا ينتمي حينئذ لنوع القصة.. أما عن الاختلافات الأخرى من طول و قصر واقترابها من واقع الناس أو ابتعادها عنه ومن جعل أبطالها من البشر أو من كائنات أخرى فهي اختلافات وقعت قبل (جوجول) و (موباسان) وبعدهما.. فالحكي ليس اختراعاً ليُمنح أحد ما براءة اختراعه.. إنه وسيلة للتعبير والبوح قديمة قدم الإنسان نفسه.

لماذا نحاول توضيح هذه المغالطة؟ لأن الاعتقاد بأن القصة اختراع غربي جعل بعض معتقديه من العرب يحاولون البحث عن صيغة محلية لهذا الاختراع المزعوم.. وهنا ثمة خطأ مزدوج: الوجه الأول منه يكمن في التصديق بصحة هذا الزعم.. والوجه الثاني يكمن في ضرورة البحث دائماً عن صيغة محلية لكل شيء.. فإذا كان مكتشف الأكسجين رجلاً غربياً فعلينا أن نبحث عن صيغة محلية لاستنشاقه.. فالشهيق والزفير بدعة غربية لا تليق بالعرب والمسلمين.

على مستوى الموضوع لا يمكن إنكار أن بعض القاصين يدبلجون حواراتهم فيغربون شخوصهم.. أو يستوردون أجواء وهموماً لا علاقة لها بواقعهم ومكانهم وزمانهم متأثرين في الغالب بقراءة الأدب المترجم قراءة امتثالية بلا وعي.. وتظل نصوصهم مع ذلك قصصاً أو حكايات مخلصة للنوع و إن لم تخلص للواقع.. أمّا على مستوى التكنيك فالحكي وسيلة متاحة للجميع وقد استخدمت قبل (جوجول) و(موباسان) و بعدهما .. لا تحتاج لبراءة اختراع كما أنها لا تحتاج لنسخة محلية.

16/7/2009

ـــــــــــــــــــــــــ
استفادت هذه المقالة من كتاب :
1 ــ فن القصة القصيرة.. د . رشاد رشدي.. منشورات دار العودة بيروت.. طبعة ثانية 1975م.
2 ــ القصة القصيرة دراسة ومختارات.. د . الطاهر أحمد مكي.. منشورات دار المعارف.. طبعة سادسة 1992م.
3 ــ تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة (1960ـ 1990).. د . خيري دومة.. منشورات الهيئة العامة للكتاب.. طبعة ؟؟ 1998م.